أخلاق المدينة الفاضلة !
انتهينا قبل أيام قلائل من الملتقى الطلابي الخليجي الثامن لطلبة كلية الطب ، والذي دارت أحداثه فوق أرض عمان الشقيقة ، في جامعة السلطان قابوس بمسقط.
قد أتحدث في تدوينات أخرى عن تجربتي الشخصية في المشاركة هناك ضمن الوفد الممثل لكلية الطب بجامعة الملك سعود. لكني الآن، سأخط بعض الحروف لأصف لكم ما أدهشني وشد انتباهي.
بداية، كانت هذه هي زيارتي الأولى لعمان، ولم أحظ قبلها بمخالطة أيٍّ من الأشقاء العمانيين والتعرف على عاداتهم وطبائعهم، ولم أكن على اطّلاع بالتركيبة الاجتماعية لذلك الشعب. فكانت مرتي الأولى لزيارتهم بمثابة صفعة على الوجه، وسأخبركم لماذا !!
حفاوة الاستقبال ، الابتسامة، الترحيب، سلامة النفس، كرم الضيافة، كلها كانت فوق الوصف والتخيل. خلت في البداية أن هذه الأخلاق والأفعال إنما هي مصطنعة من طلاب الطب المستضيفين في جامعة السلطان قابوس كوننا ضيوف عليهم، لكنّي دهشت عندما رأيت الجميع يعاملنا بالمثل: سائق التاكسي، الرجل البائع في المحل، المارة والسائقون في الطرقات، كلهم على روعة من الخلق والتعامل، ليس لها مثيل.
ومن باب التحدي: اتفقت أنا ومن كان معي من الزملاء السعوديين “المدهوشين مثلي” أن نحاول البحث عن عمانيّ “معصّب” واحد لمدة يوم كاااامل ، وللأسف ،، كانت النتيجة في نهاية اليوم: لا أحد !!!
أحد المواقف: كنّا نبحث عن سيارة أجرة تقلنا من وسط مسقط ، إلى مكان إقامتنا في الجامعة، وكنت أنا المفوّض الذي يعقد الانفاقيات مع “التكاسي” ، لإيمان الزملاء بقدراتي الفطرية على “المكاسرة”. المهم: بعد الاتفاق مع أحد الإخوة العمانيين على السعر “السائق شاب في أعمارنا”، ركبنا ووجهنا معه للجامعة. وخلال السواليف والدردشات، وبعد أن عرف أننا “سعوديّون”، بدأ برمي الملازيم علينا بأن “نشرف محله” و “نتعشى عنده” في بيته. ومن باب الحياء المعتاد الذي نحتويه ويتلبسنا، شكرناه بلطف على دعوته، وطلبنا منه العذر. وعندما وصلنا إلى السكن، رفض الرجل بشدة وعنف أخذ أيّ مبلغ على المشوار، ولو لا فرق العدد “لصالحنا” ، لما استطعنا إقناعه بأخذها.
نزلنا بعدها من السيارة ، تبادلنا نظرات التعجب، ونطق لسان الحال فينا: “الله يخلف علينا” !
موقف آخر: احتجت إلى الذهاب إلى أقرب منطقة تجارية من الجامعة ، وطلبت من أحد المنظمين “لا أعرف من إلا اسمه” أن يوصلني بسيارته إلى أقرب نقطة تجمع لسيارات الأجرة. ببساطة سألني: “تدل المحل اللي تريده؟” ، هززت رأسي “المتنح” بالإيجاب، بكل ثقة وبدون أدنى تردد: أخرج مفتاح سيارته من جيبه، وقال: “توكل على الله ، السيارة سيارك” ، وضع المفتاح في يدي ومشى، وتركني فاغر الفم حائراً !!
لن أطيل ولن أعيد ذكر الابتسامة الدائمة التي تعلو محياهم، ولا صبرهم العجيب على تحمل عدد المشتركين الضخم “ما يزيد على ال ١٥٠٠ طالب وطالبة”، لأنني وببساطة، أعجز عن وصف أفعالهم !
رأيت هناك منظومة أخلاقية جديدة، يعيشها المجتمع كاملاً بلا استثناء، وجدت ما كنت أظنه مدينة أفلاطونية، وبما أن “العمانيين” اكتشفوا الطريق إليه، فإننا جميعاً “ونحن السعوديين خصوصاً” قادرون على ذلك.
علقت في ذاكرتي كلمة عميد كلية الطب بجامعة السلطان قابوس/ د. يحيى الفارسي ، “والذي يستحق بدوره تدوينة كاملة تصف روعته” عندما أجاب على تساؤلاتنا المستمرة حول سمو أخلاقهم ، فقال:
“قد لا نكون -في عمان- من الرائدين في تشييد البنيان والعمران، لكننا صببنا اهتمامنا على بناء العقول والأرواح، وآستطيع أن أقول لكم الآن: أن الفرد العماني قد وصل إلى مرحلة سلام مع ذاته ، وهذا ما نريد”
سرحت بعد هذه الحكمة الآسرة، وفجأة وجدتني أنطق:
متى يا ترى نصل إلى ذلك السلام ؟!!
دمتم بأخلاقهم، وأرفع
🙂